يعتقد الكثير من النّاس أنّ المشاكل العديدة التي تُحيط بهم وتُفسد عليهم حياتهم وعلاقاتهم ومُستقبلهم، تعود أصلاً لوجود
من يحسدونهم أو يعملون لهم عملاً أو سحراً.
فبعض المُحيطين بهم لهم "عيون حسودة شرّيرة" تنظر فيما لهم وتستكثره عليهم وتتمنّى حرمانهم منه. هؤلاء النّاس يعيشون حياة مُعذَّبة تُفقِدهم أيّ أملٍ أو رجاءٍ للمُستقبل.
ما هو الحسد؟
هو بتعريف بسيط النّظَر لشيء يمتلكه الآخَر ولا يمتلكه الشّخص الحسود. حيث ينظر هذا الحاسِد إلى شيء أعطاه الله للآخَر (يرى نفسه محروماً منه) بنظرة شهوة لتملُّكه، وبنظرة حقد وتمنّي أن يُعطى هو مثله أو أفضل منه حتّى لو كان الثّمن حرمان الشّخص المحسود منه.
اعتقاد سائد:
إنّ الاعتقاد بوجود أمور مثل الحسد والسّحر والأعمال الشّريرة، و"العين التي تفلق الحجر" وغيرها من الموروثات الشّعبيّة التي تُحيط بنا، جعل الكثير من البشر يُسلّمون يقيناً أنّ كلّ ما يحدث لهم في حياتهم اليوميّة من مشاكل أو عقبات تعترض سبيلهم ـ أيّاً كانت هذه العقبات أو حجمها أو نوعيّتها ـ تعود كلّها لمصدر واحد في الأصل، ألا وهو الحسد أو العين الحسودة (أو ربّما السّحر أو الأعمال السُّفليّة، أو أيّ من هذه المُعتقدات ......).
ما الذي يُمكن أن يؤدّي إليه مثل هذه الاعتقاد:
الحقيقة أنّ اعتقاداً كهذا يُمكن أن يكون له الكثير من النّتائج السّلبيّة على كلّ من يؤمن به. فمثل هذا الاعتقاد كثيراً ما يؤدّي لفَهمٍ خاطىءٍ، حول طبيعة مشكلة ما تواجه الإنسان وطريقة حدوثها والأسباب التي تؤدّي لها، فيفقد المرء بالتّالي القُدرة على التّخلّص منها ومُواجهتها وعلاجها، ويصبح لسان حاله يقول: بوَجه مين تصبَّحت اليوم. فتتعقّد أموره أكثر وتتطوّر إلى الأسوأ، وتتعثّر خطوات السّير في طريق الحلّ الصّحيح وتزداد المشكلة تعقيداً، وهذا كلُّه قد يقود الإنسان لليأس والاستسلام، أو للانهيار التّام ومُحاولته الهروب من عجزه عن مُواجهة واقعه (لأنّه يصير مقتنعاً أنّ الموضوع أكبر منه ولا سبيل له لحلّه أو لمُواجهته!)، فتكون النّتيجة أن ينطوي ويعتزل الحياة والنّاس، وقد يلجأ لإدمان المخدّرات أو المُسكرات وهكذا تزداد الأمور سوءاً.
الحسد وأقوال الثّقافة العربيّة:
يحتلّ الحسد وِفقاً لواقع مجتمعاتنا العربيّة مكانة واضحة. فانطلاقاً من الإيمان بوجوده وقوّة الاقتناع بتأثيره على حياة الأفراد وظروفهم، نراه حصل بالتبعيّة على نصيب وافر من الحِكم والأمثال العربيّة والتي يَشوب مُعظمها المفهوم الغَيبي مثل :"العين صابتني وربّ العرش نجّاني"، "عين الحسود فيها عود"، "الحسود لا يسود".... إلخ. وبناءً على هذا المفهوم العربي للحسد تعاملت المُعتقدات العربيّة الشّعبيّة معه بالمنطق نفسه. فعملت على مواجهته أو علاجه بأمور مثل ارتداء الخَرَزة الزّرقاء درءاً لشرِّ الحسد، أو التّلفُّظ بعبارات مثل: "أمسِك الخشب"، أو تعليق فَردة حذاء صغيرة في مُؤخِّرة السّيّارة، أو تعليق حَدوة حصان فوق باب البيت، وغيرها من الأمور التي يعتقد البعض أنّها تَقي من الحسد وتُبعد شرّ الحاقدين!.
الحسد وما رأي المسيحيّة فيه وماذا يقول الكتاب المقدس عنه؟
يتناول الكثيرون الحسد من منظور ديني وأخلاقي، ويجدر بنا هنا أن نلتفت لفكر الله بخصوص الحسد. الحقيقة أنّ الكتاب المُقدّس لا يُنكر وجود الحسد بين بني البشر كواحدة من الخطايا التي يقترفها النّاس تجاه بعضهم البعض. وقد تكرّرت الآيات التي تنهى عن الحسد في مواضع عدّة من كلمة الله المُقدّسة:
أمثال 24: 19
. ومزمور 37: 1
. وفي أمثال 3: 31
. كما في أمثال 24: 1
.
ويرى المسيحيّون أنّ الحسد خطيّة تُقتَرف أساساً في حقّ الله قبل أن تكون في حقّ الإنسان المحسود، وهي مثل خطيّة عدم الغفران، تؤذي بالدّرَجة الأولى الحاسِد نفسه وليس المحسود. فالحسد إنّما يكون هو بمثابة الحرب التي نشنّها نحن على أنفسنا قبل أن نشنّها على الآخَرين، وندفع نحن أنفسنا ثمنها قبل أن يدفعه الآخرون (الذين في غالبيّة الأمر لا يَتضرّروا بشيء من جرّاء حسدنا لهم!). وحيث أنّ الحسد هو النّظرة الحقودة إلى ما لدى الآخَرين، وهو نظرة عدم الرِّضى والشّعور الخبيث من نحو الآخرين لأنّهم يمتلكون ما لا يمتلكه الحاسِد، فإنّ البعض يؤمنون بقوّته ويخافون من الحاسِدين. فالحسد هو عاطفة أنانيّة تهتمّ بالمصلحة الذّاتيّة فقط، وهذا ما حدث في بعض المواقف بالكتاب المقدّس مثل حسد الفلسطينيّين لإسحق في سِفر التكوين 26: 14
. وحسد يوسف من أخوته في تكوين 37: 11
. أيضاً قصّة عيسو ويعقوب، وما ذُكِر عن راحيل وليئة، وعن هامان ومردخاي وحسد اليهود للرّبّ يسوع.
الشّيطان يحاول تأكيد فكرة الحسد في عقول النّاس عن طريق إيذاء المحسود، ليوهم الإنسان بقدرات الحسد وقوّته، ويدفع المحسودين للخوف من الحاسدين. لكنّه بالطّبع لن يستطيع إيذاء المؤمنين بالمسيح.
كيف يُمكنني أن أتخلّص من خطيّة الحسد؟
يتطلّب الأمر أن يعرف الإنسان أنّ أمراً كهذا لا يليق به، لأنّ فيه نوعاً غير مُباشر من الاتّهام لله تعالى له كلّ المجد بأنّه مُقصِّر تجاهه، أو أنّه لا يُحبّه بشدّة (بمثل مقدار محبّته لذاك الآخَر الذي أعطاه ما لم يُعطِيه إيّاه!)، وأنّه غير عادل في توزيع العطايا والبَرَكات والهِبات والخَيرات على عبيده من بني البشر، فأعطى البعض لغَرَضٍ ما أموراً وعطايا أكثر تميُّزاً من آخَرين سواهم. بل ومرّاتٍ يتجاسَر أحدهم ليقول عن الله: "أعطى الحَلَق لِلّي بلا ودان!". وبهذا ينسب لله حماقة أو جهلاً في توزيع البَرَكات (حاشا لله)، وربّما يجيب البعض أنّهم يوجّهون هذا المثل أو هذا الاتّهام للبشر وليس لله!. لكن ألا يعلمون بأنّ الله تعالى هو صاحب كلّ قدرة وسلطان، وأنّ لا أحد من البشر يقدر أن يمنح أو يمنع إلّا بإذنه هو تعالى له كلّ المجد.
إنّ الأمر يتطلّب أن أُحبّ للآخَرين كلّ خير وتقدُّم وصلاح، أفرح لفَرَحهم وأسعَد بكلّ ما يُعطيه الله لهُم من خَير وبَرَكات. أفرح كذلك وأقنَع بما يعطيه الله لي أنا أيضاً من عطايا. أطمح نعم، لكن لا أطمع. أجتهد لأقبَل من يد الله الصّالحة كلّ ما تُقدّمه لي من خَير وبَرَكة، فهو صالح ومُحِبّ ورؤوف ويعمل الكلّ بحكمة وصلاح. بهذا لن أعرف الحسد، بل السّعادة والهناء وراحة البال.