السّنين، لأنّ آباءنا ربّونا، وأجدادنا ربّوا آباءنا .... إلخ، وكانت تربيتهم ناجحة، حتّى دون أن يتوفّر لهم أيّ نوع من الدّراسات المُتقدّمة التي تُدرّس الآن عن تربية الأطفال وحاجاتهم النّفسيّة.
ولكن الحقيقة ليست كذلك بالتّأكيد، فبالرّغم من أنّ آباءنا ربّما لم تُتح لهم الفرصة ليتعلّموا مثلما هي مُتاحة لنا اليوم، لكن ممّا لا شكّ فيه أنّهم لم يعيشوا تعقيدات الحياة التي نعيشها نحن اليوم وتطوّر تقنياتها، وانهيار العلاقات ونشأة الكثير من الأمراض النّفسيّة، والضّغوط التي صارت تُمثّل خطراً على حياة الإنسان ... إلخ. والحقيقة هي أنّ كلّ هذه الأمور صارت تجعل سَعيَنا لفهم شخصيّات أولادنا وبناتنا أمراً ضروريّاً بل ماسّاً، لا بدّ أن نسعى له بكلّ ما أوتينا من قوّة، حتّى يمكننا أن نساعدهم ونربّيهم بأفضل أسلوب ممكن، ونَقيهم شرّ وصعوبات الحياة العصريّة.
• كيف تتحدّث كلمة الرّبّ المقدّسة عن تربية الأولاد وفهمهم؟
يهتمّ الكتاب المقدّس كثيراً بالأسرة، ويتحدّث عنها كنَواة أولى وصورة مُصغّرة للكنيسة المسيحيّة، التي ينمو فيها الأفراد ويتبادلون معاً الخبرات ويكتسبون المهارات في محبّة وألفة وصداقة، وفي جوّ صحّي بنّاء ونافع لكلّ من فيه، وللمجتمع المحيط به أيضاً.
ففي العهد القديم يوصي الله الإنسان قائلاً في سِفر التثنية 6: 5 - 7
. فالشّريعة تُوصي الأهل بأن يربّوا أولادهم في خوف الله ومعرفته. كما يوصي الأب (الأهل) على لسان الحكيم سليمان في أمثال 22: 6
. كما يقول للأب أيضاً في سفر الأمثال 19: 18
. وفي أمثال 23: 13
. وأمثال 29: 17
. أمّا للابن فيوصي في أمثال 23: 22
.
وفي العهد الجديد يمكننا أن نرى بوضوح كيف كان يسوع نفسه يهتمّ بالأطفال في إنجيل متّى 18: 1 - 5
. وقال يسوع أيضاً عن الأطفال في متّى 19: 14
.
كما يعلّم الرّسول بولس أيضاً الأهل قائلاً في رسالة أفسس 6: 4
. بعد أن كان أوصى الأولاد قائلاً في أفسس 6: 1 - 3
. ويعوزنا المزيد من الوقت لنعرض الكثير ممّا قاله الوحي المُقدّس عن تربية الأطفال، لكنّنا انتخبنا بعض هذه الأجزاء الكتابيّة فقط للتّدليل، والآن:
كيف أفهم شخصيّة ابنتي أو ابني؟
ليس الموضوع صعباً أو مُعقّداً، إنّما يحتاج إلى رغبة مُخلِصة وواعية، لتحليله والاهتمام به بطريقة تُحقّق الهدف المرجو منه. فالهدف بالطّبع ليس هو الدّراسة أو الفهم وتحليل الشّخصيّة لمُجرّد الفهم والتّحليل، لكن الهدف هو ـ كما سبق وذكرنا ـ تربية أولادنا بطريقة سويّة وسليمة، تؤهّلهم لمواجهة الحياة بصعوباتها وتعقيداتها بطريقة فعّالة وإيجابيّة. والآن لنتحدّث بإيجاز عن بعض الخطوات العمليّة التي يمكننا بها أن نفهم أولادنا، وهي:
1. لندرك أنّ أولادنا متميّزون:
نعم، فهم مُتفرّدون ويختلف كلّ واحد منهم عن الآخر في الميول والطِّباع والتوجّهات، بل إنّ الحياة نفسها والبيئة المُحيطة بكلّ منهم (مدرسة، زملاء، أقرباء وجيران و ...) تلعب دوراً واضحاً في اختلافاتهم. وهم بالطّبع أيضاً مختلفون عنّا، ولم ولن يكونوا بأيّ حال من الأحوال نسخة مُقلّدة منّا، فهم ليسوا كقطع الشّطرنج التي نُحرّكها كما نشاء، (وحتّى لو قبلوا هم ذلك ظاهريّاً أو تحت تهديدنا وضغطنا عليهم فإنّ ذلك لا يعني أنّهم بقرارة أنفسهم مرتاحون لهذا، لكنّهم مُضطرّون عليه، ممّا يسبب لهم مشاكل لا تُحصى عندما يكبرون). لذلك فإنّه يكون لزاماً علينا ألّا نُحاول أن نوحّد طريقة تعاملنا معهم، أو أن نعمل على تنشئتهم مثلما نرى نحن دون احترامٍ لآدميّتهم وتفرّدهم واستقلالهم وتميُّزهم.
2. لنعمل على تفهُّم حاجاتهم النّفسيّة والعاطفيّة وتلبيتها:
فلابنتي أو ابني حاجات طبيعيّة ونفسيّة معروفة (أو يكون لزاماً علينا أن نجتهد لنعرفها). ومن الحاجات العامّة المعروفة لدى البشر عموماً (لا سيّما الأطفال لأنّهم يكونون في مراحل تكوين الشّخصيّة والتّأقلم مع المجتمع):
• الحاجة إلى الحُبّ.
• الحاجة إلى الانتماء.
• الحاجة إلى التّفهّم والتّقدير.
• الحاجة إلى المناقشة الحرّة والتّعبير عن الرّأي.
وعلى الآباء أن يسعوا بكلّ قدرتهم ليسدّدوا لأولادهم هذه الحاجات النّفسيّة الهامّة جدّاً لتكوينهم ونموّهم الشّخصي.
3. لنعمل على تنمية مهارات الاتّصال عند الأطفال:
ويكون ذلك كما ذكرنا سابقاً عن طريق استخدام أساليب الإقناع والتّأثير والمناقشة الحرّة والموضوعيّة، وليس مجرّد التّلقين أو إعطاء الأوامر الصّارمة دون وجود فرصة للحوار أو التّعبير عن الرّأي.
4. لنكن أصدقاءاً لأولادنا:
من المهمّ جدّاً لنا كآباء أن نجتهد لنحوز ثقة أولادنا، فكلّما كنّا كآباء وأمّهات أصدقاء ومحلّ ثقة لأولادنا، كلّما سيكون طبيعيّاً أن يجدوا راحتهم في الحديث معنا ويكونوا صادقين في التّعبير عمّا يجول بخواطرهم من متاعب أو مصاعب بصراحة وشفافيّة. وسوف يساعدهم ذلك بالطّبع، ويوفّر لهم الحماية اللازمة من مخاطر الطّريق. أمّا لو شعروا أنّنا نلومهم إن اعترفوا بخصوصيّاتهم (بضعفاتهم وتقصيراتهم وأخطائهم) لنا، أو لو رأوا أنّنا نوجّه لهم الاتّهامات، فإنّهم لن يعودوا إلينا من جديد طالبين العون والمشورة، وسيضطرّون غالباً أن يبحثوا عنها عند صديق أو زميل أو أيّ شخص آخر غريب عنّا، ممّا يُعرّضهم لمخاطر عدّة، ووقتها يكون اللّوم واقعاً علينا نحن، إذ لم نتعلّم مهارة مهمّة من مهارات التّربية ألا وهي: "كسب ثقة أولادنا".
5. لنتعلّم كيف نكون مُستمعين جيّدين لأولادنا:
وهذا الأمر يرتبط ارتباطاً شديداً بكلّ ما قُلناه سابقاً لا سيّما النّقطة الأخيرة (السّابقة). والأمر يستلزم منّا أن نُخصّص أوقاتاً مُعيّنة لنجلس مع أولادنا، ويكون لزاماً علينا أن نُراعي مشاعرهم، فلا نُشعرهم أنّنا نجلس معهم متململين أو مشغولين بأمرٍ ما نقوم به، أو نستعجلهم كي يُنهوا كلامهم بسرعة، .... إلخ، لكن يكون لزاماً علينا أن نسمعهم جيّداً ولا نُقاطعهم ولا نُعطي آراءً مُقتَضَبة في الموضوع الذي يتحدّثون فيه، ولا نجعل جوّ الحوار متوتّراً أو مُنفعلاً بل هادئاً وإيجابيّاً ومُريحاً. وعلينا أيضاً أن نُشجّعهم أن يُعبّروا عن مشاعرهم بطريقة سليمة دون خوف أو وَجَل. وليس علينا أن ندلّلهم ولا أن نُسرِف في توجيه اللّوم لهم، بل نتعامل مع كلّ موقف مثلما يلزمه بطريقة واقعيّة ومُتّزنة.
6. لنُعلّمهم كيف يتّخذون القرارات، ويشاركون في تحمُّل المسؤوليّة بخصوصها:
وذلك عن طريق مُناقشة الأمور من زوايا مُختلفة، ولا نطرح الحلول أو البدائل بسرعة وبطريقة جاهزة، بل نُعلّمهم كيف يكتشفونها بأنفسهم. كذلك علينا أن نُنمّي عندهم القدرة على التّحليل والاستنباط، وندرّبهم على مناقشة السّلبيّات والإيجابيّات في البدائل المُقترحة، حتّى تكون لديهم القدرة على اتّخاذ القرارات بطريقة صحيحة ونافعة، وإن أخطأوا في قرار ما، علينا أن نُدرّبهم أن يتحمّلوا ـ بشجاعة ورباطة جأش ـ نتيجة ما اتّخذوه من قرارات خاطئة، ونُطمئِنهم أنّها ليست كارثة (وليست نهاية الكون!) لأنّنا سنتعلّم منها حتّى لا نُكرّر الخطأ مُستقبلاً.
7. لنكن قدوة لهم في كلّ شيء:
فكثيراً ما يكون من السّهل علينا أن نعلّم أولادنا ما لا نعمله نحن! وبالطّبع لن يكون بمقدورهم ـ بأيّ حال ـ أن يتعلّموا ما لا يرونه عمليّاً في حياتنا، فمسؤوليّتنا إذاً كبيرة أن نكون قدوةً لهم في كلّ شيء، في السّلوك والتّصرُّف وفي الفعل وردّ الفعل .... إلخ.
8. لنعرّفهم طريق الله والإيمان:
والحقيقة أنّنا إن اعتدنا أن نَذكُر أولادنا أمام الله في الصّلاة، وأن نعمل على ربطهم جيّداً بالأمور الرّوحيّة، فذلك سيساعدنا على فهمهم جيّداً، ويساعدهم هم أيضاً أن يرتبطوا بنا وبالله تعالى بعلاقة سليمة تجعلهم يَحيون حياة هادئة ورائعة وواثقة.
عزيزي القارىء،
إسأل نفسك الآن بعد أن قرأتَ هذه المقالة، هل يمكنك أن تقول إنّك تفهم أولادك جيّداً، وهل تُقدّم ـ أنت لهم ـ كلّ ما يحتاجون له من رعاية واهتمام ... أدعوك أن تشاركني بأيّة فكرة إضافيّة لديك حول هذا الموضوع، والله يوفّقنا جميعاً لما فيه خيرنا وخير أولادنا وعائلاتنا وأوطاننا.